فلسطين: خطبة جمعة "يبيعون الهواء والهوى في الجامعات الفلسطينية!"
لفضيلة الشيخ عصام عميرة (أبو عبد الله)
بيت المقدس، 27 محرم الحرام 1438هـ الموافق 28 تشرين الأول/أكتوبر 2016م
الجمعة 27 محرّم 1438هـ
2016/10/28م
يبيعون الهواء والهوى في الجامعات الفلسطينية
(الخطبة الأولى) أيها الناس: قال الماوردي رحمه الله: «العلم أشرف ما رغب فيه الراغب، وأفضل ما طلب وجد فيه الطالب، وأنفع ما كسبه واقتناه الكاسب. لأن شرفه يثمر على صاحبه، وفضله يَنْمو عند طالبه، قال الله سبحانه وتعالى: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾. فمنع سبحانه وتعالى المساواة بين العالم والجاهل، لما قد خص به العالم من فضيلة العلم، وقال الله سبحانه وتعالى: ﴿وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ﴾. فنفى أن يكون غير العالم يعقل عنه أمرًا، أو يفهم عنه زجرًا». أ.ه. ومن الآيات الدالة على فضل العلم وطلبه، قول الله سبحانه وتعالى: ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾. فأشهد الله العلماء دون غيرهم من البشر، وقرن شهادتهم بشهادته سبحانه وتعالى، وشهادة الملائكة، ولا يستشهد الله إلا العدول. وقوله سبحانه وتعالى: ﴿وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾. وقوله عز من قائل: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾. وغيرها كثير. وأما من الأحاديث التي جاءت بمدح العلم وأهله:قال صلى الله عليه وسلم: «من يرد الله به خيرًا يفقه في الدين».وقال صلى الله عليه وسلم: «لا حسد إلا في اثنين: رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق. ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها».وقال صلى الله عليه وسلم: «من سلك طريقًا يطلب فيه علمًا، سلك الله به طريقًا إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضًا لطالب العلم، وإن العالم يستغفر له من في السماوات ومن في الأرض، والحيتان في جوف الماء، وإن فضل العالم على فضل الطالب كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء وإن الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا وإنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظٍ وافر». وغيرها كثير.
أيها الناس: إن العلم يرفع العبد المملوك إلى مقام الملوك، روى مسلم أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يستعمل نافع بن عبد الحارث على مكة، فَلَقِيَه عمر بعُسْفان فقال: من استعملت على أهل الوادي؟ فقال: ابن أبزى. قال: ومَنْ ابن أبزى؟! قال: مولى من موالينا! قال: فاستخلفت عليهم مولى؟ قال: إنه قارئ لكتاب الله عـز وجل، وإنه عالـم بالفرائض. قال عمر: أما إن نبيكم صلى الله عليه وسلم قد قال: إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواما، ويضع به آخرين. وقال الشاعر: العلم يرفع بيتا لا عماد له ... والجهل يهدم بيت العز والشرف. وغيرها من الأمثلة على فضل العلم والتعلم كثير كثير. وقد حدد بعض العلماء شروطا معينة ينبغي لطالب العلم أن يحققها، منها: التقوى والمثابرة والاستمرار على طلب العلم، والحفظ. وجعلوا لطلب العلم آدابا ينبغي لطالب العلم أن يتحلى بها، منها: إخلاص النية لله عز و جل، ورفع الجهل عن نفسه وعن غيره، والدفاع عن الشريعة، ورحابة الصدر في مسائل الخلاف، والعمل بالعلم، والدعوة إلى الله، والحكمة، وأن يكون الطالب صابرا على التعلم، واحترام العلماء وتقديرهم، والتمسك بالكتاب والسنة، والتثبت والثبات، والحرص على فهم مراد الله عز وجل ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم، والتواضع، والجرأة وعدم الاستحياء من السؤال، وغيرها كثير كثير.
أيها الناس: لقد بحثت في فوائد التعلم وآدابه وشروطه ومتعلقاته ومتطلباته فلم أجد أحدا من العلماء قد أتي على ذكر الرقص من بينها، أو بوب له بابا في كتابه أو أفرد له فصلا، بل ولا عنوانا جانبيا. أجل، أيها المسلمون، الرقص، وأنا أعني ما أقول، فلعل بعضكم يراجع ما سمع ويقول، أحقا ما سمعت من الخطيب؟ وأكررها على مسامعكم كي تتهيأوا لسماع شيء من التفصيل حول قلة آداب المتعلمين اليوم وخصوصا في الجامعات الفلسطينية العتيدة. لقد قامت شركة من شركات بيع الهواء الغنية بالترويج لمنتجاتها بين طلبة الجامعات، وبالتنسيق مع إداراتها وعمادات شؤون الطلبة فيها. وكنا نتوقع من هذه الشركة وأمثالها أن يبنوا في الجامعات غرفا صفية ومختبرات علمية، ويزودوها بالأجهزة المتقدمة. ولكنهم عوضا عن ذلك، قاموا ببيع الهوى والهواء معا، بإحياء حفلات غناء ماجنة، يتخللها رقص خليع يميت قلوب الشباب والشابات، وهم يتمايلون طربا على أنغام فرقة مدربة على المزج القبيح بين الفسقين الفلسطيني والأميركي، في مشاهد فاضحة بكل ما تعني الكلمة من معنى. ولما بلغ الفسق منتهاه، حُملت بعض الشابات على أكتاف الشباب للتعبير عن الاستغراق في الانسجام الطلابي والتلاحم الجسدي والفكري والنفسي، في الوقت الذي تسيل فيه دماء المسلمين أنهارا، ويجندل فيه الشهداء على ثرى فلسطين الأسيرة والشام الجريحة وغيرهما من بلاد المسلمين! وفي الوقت الذي تجمعت فيه جيوش الكفار وأعوانهم من كل حدب وصوب، لتدك بيوتنا وتقتل أطفالنا ونساءنا وتنتهك أعراضنا وتدنس مقدساتنا. ولا داعي للزيادة، فالعبد يقرع بالعصا والحر تكفيه الإشارة.
(الخطبة الثانية) أيها الناس: لما علم نفر من المسلمين من أبناء فلسطين بهذا المنكر هبوا لإنكاره، وأوفدوا الوفود لبعض الجامعات التي أعلن فيها عن إقامة تلك الحفلات البذيئة، واجتمعوا مع ممثلين عن إداراتها وعمادات شؤون الطلبة فيها، فاستجاب البعض لمطالبهم بإلغائها، ورفض البعض الآخر الاستجابة. فألغيت في جامعتين من الجامعات التي تحترم نفسها وتقدر مشاعر الناس وممثليهم، وأقيمت الحفلات في باقي الجامعات، مسجلة في صحائفها خزيا وعارا سيطيح بكبريائها العلمي، ويخدش حياءها "الوطني".
أيها الناس: إننا نرسل أبناءنا وبناتنا إلى المدارس والجامعات كي يتعلموا ويتأدبوا ويحصلوا الشهادات العلمية والمراتب، ولم نكن نعلم أننا نرسلهم وننفق عليهم الأموال الطائلة ليرقصوا ويحصلوا شهادات في قلة الأدب والميوعة تحت غطاء الترفيه والتسرية. وإني أشهد شخصيا على عميد شؤون الطلبة في واحدة من تلكم الجامعات التي فتحت أبوابها على مصراعيها لهذا الفجور أنه قال: إننا نحافظ بذلك على تراثنا الشعبي الذي يحاول العدو سرقته!
أيها الناس: لن يعود للعلم رونقه، ولن تعود للعالم هيبته، وللمتعلم آدابه، ما لم يتم قلع أنظمة الحكم المسلطة على رقاب المسلمين، والتي يرعى حكامها هذا الفساد الممنهج والفجور المبرمج في الجامعات وغيرها من معاهد التعليم. ثم إقامة نظام حكم الإسلام على أنقاضها، الخلافة الحقيقية الثانية الراشدة على منهاج النبوة، وسيصبح السفهاء القائمون على إفساد أبنائنا وبناتنا على ما أسروا في أنفسهم أو أبدوه لنا نادمين.
وختاما نقول لطلاب العلم عموما وطلاب الجامعات خصوصا: اسمعوا ما قال الإمام الشافعي رحمه الله وقد ملأ علمه طباق الأرض:
شَكَوْتُ إلَى وَكِيعٍ سُوءَ حِفْظِي | |
فَأرْشَدَنِي إلَى تَرْكِ المعَاصي | |
وَأخْبَرَنِي بأَنَّ العِلْمَ نُورٌ | |
ونورُ الله لا يهدى لعاصي |